خطبة بعنوان : وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله، لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح
خطبة بعنوان : وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله، لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه ..
وأشهد أن سيدنا و نبينا وحبيبنا وعظيمنا وأستاذنا محمدًا عبد الله ورسوله،وصفيه من خلقه وحبيبه طب القلوب ودوائها وعافية الأبدان وشفائها ونور الأبصار وضيائها الذي تمَّت ببعثته النبوة وختمت، وسطعت به أنوار الشريعة وكملت، وعلت به راية الملة وارتفعت محمد صلي الله عليه وسلم القائل:” مبلغاً عن رب العزة سبحانه وتعالي :” ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غني وأسد فقرك وإن لا تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسد فقرك “(أحمد وابن ماجة). اللهم صلاة وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله وعلي آلك وصحبك الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد فيا جماعة الإسلام :
أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله.. لأنه من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ولأنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً، ولأنه من يتق الله يجعل له من أمره يسراً، و لأنه من يتق الله يجعل له فرقاناً . فاللهم اجعلني وأحبتي من المتقين.
وحديثنا إليكم اليوم عن التقوى واليوم الآخر .
تعالوا لنتدبر ونعيش مع آخر وصية قرآنية نزلت فيها صلاحنا وفيها النجاة , إنها لأعظم وصيه , كيف لا؟ وهي وصية رب العالمين وخالق الخلق أجمعين فهو سبحانه عالم بما يصلح أحوالهم , وهو سبحانه المطلع علي مصيرهم وما لهم وما ينتظرهم من مواقف وأهوال لا ينجوا منها إلا المتقين , فأوصانا وهو الرحيم بنا بما ينجينا من سخطه وعذابه فأمرنا بالتقوى .
إن الله تبارك وتعالى يعظ عباده ويَقرع قلوبهم بمواعظ علها تعود وتُنيب إلى الله علام الغيوب، فالمواعظ من العلي القدير نعمة ورحمة، يهدي بها سبحانه من الضلال، ويرحم بها من العذاب.. ومن هذه المواعظِ التي جاء ذكرها في كتاب ربنا تبارك وتعالى، موعظة، آية، تذكرة، أحببت أن أذكّركم، والذكرى تنفع المؤمنين، وأذكرَ نفسي بيوم سيعيشه كل واحد منا، وهو يوم الرجوع إلى رب العالمين .
يقول الله تعالي : ” وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ” [البقرة/281]. هذه آية أقضَّت مضاجع الصالحين الذين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. فالله سبحانه وتعالى يعظ عباده ويذكرهم بزوال الدنيا وفناء ما فيها، يذكرهم بالرجوع إليه ومحاسبتهم على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير أو شر…
أخوة الإيمان :
يقول القرطبي :” قيل : إن هذه الآية نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء ، قاله ابن جريج . وروي بثلاث ليال . وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه عليه السلام قال : اجعلوها بين آية الربا وآية الدين . وحكي مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية ” (الجامع لأحكام القرآن ).
ويقول ابن كثير في تفسيرها : ” هذه الآية أخر ما نزل من القرآن العظيم وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى ,
والمعني :” واحذروا أيها الناس يوماً ترجعون فيه إلى الله فتلقونه فيه أن تَردوا عليه بسيئات تهلككم , أو بمخزيات تخزيكم , أو بفضيحات تفضحكم , فتهتك أستاركم , أو بموبقات توبقكم , فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به , وإنه يوم مجازاة الأعمال لا يوم استعتاب , ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة , ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة , توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح , لا يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت , فتوفى جزاءها بالعدل من ربها , وهم لا يظلمون . وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها وبالحسنة عشر أمثالها , كلا بل عدل عليك أيها المسيء , وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن , فاتقى امرؤ ربه فأخذ منه حذره وراقبه أن يهجم عليه يومه , وهو من الأوزار ظهره ثقيل , ومن صالحات الأعمال خفيف , فإنه عز وجل حذر فأعذر ووعظ فأبلغ”(تفسير القرآن العظيم).
أيها الناس :”
وإذا أردنا أن نتحدث عن هذه الموعظة فالحديث عنها ينقسم إلي قسمين : الحديث عن التقوي والحديث عن ارتباطها باليوم الآخر .. فالحديث عن التقوي حديث شيق ينشرح له القلوب والصدور. والحديث عن اليوم الآخر حديث تقشعر منه الأبدان والجلود .. وإذا أردنا أن نتحدث عن التقوي أولاً :
فإن التقوى خير زاد وخير اللباس وهي الميزان الذي يوزن به العبد. :”وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ” ” وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ” ( الأعراف /26) . وكما يقول صلى الله عليه وسلم عندما سئل من أكرم الناس قال:”أتقاهم” .
إذا المرءُ لم يلبسْ ثيابًا من التُّقـى**تقلب عُريانًا وإن كـان كـاسـيـا .
وخير لـباس المرءِ طاعـة ربـــه**ولا خيـر فيمن كان لله عـاصــيا.
ولمكانة التقوى في الكتاب والسنة ومكانة أهلها فقد اهتم العلماء الربانيون بتعريف التقوى فقال عنها:علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل والرضا من الدنيا بالقليل” وقال ابن مسعود: “التقوى هي أن يطاع الله فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر” وقال أبي بن كعب لما سأله عمر عن التقوى قال:
“أرأيت لو مضيت في مكان فيه شوك ماذا تفعل؟ قال:أشمر وأجتهد، قال:فكذلك التقوى” وقال أحد السلف: “هي أن تزين باطنك للخالق كما تزين ظاهرك للمخلوق” وقال طلق بن حبيب: “هي أن تعبد الله على نور من الله ترجو ثواب الله وتترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله”وقال آخر :”هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل الأوامر وترك النواهي”.
** حقيقة التقوى من القرآن الكريم:
أخوة الإسلام :
و إذا أردنا أن نعرف حقيقة التقوى في القرآن؟ فإن كلمة التقوى وردت بعدة معاني منها:
* الإيمان قال تعالى:”إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى” [الحجرات:3]. أي الإيمان
* التوحيد قال تعالى:” وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى” [الفتح:26]. أي تابوا
* ترك المعصية قال تعالى: “وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”
[البقرة:189]. أي فلا تعصوه.
*الإخلاص قال تعالى:”فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ” [الحج:32]. أي من إخلاص القلوب.
** أهمية التقوى
أخوة الإيمان والإسلام :
و للتقوى أهمية كبيرة ومكانة عظيمة ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها أشد الحرص منها:
* فهي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى:”وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ” [النساء:131].
*وهي وصية الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً”[الأحزاب:1].
*ووصية الله للمؤمنين قال تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً” [الأحزاب:70].
* و وصية الله للناس جميعاً قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً” [النساء:1].
*و وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في كل مكان قال صلى الله عليه وسلم: “اتق الله حيثما كنت” (صحيح).
* ثمرات التقوى:
جماعة الإسلام
وللتقوى ثمرات كثيرة وجليلة ومنها:
*فهي الميزان الذي يوزن به العبد قال تعالى:”إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” [الحجرات:13].
*وهي قرينة البر فيقال: بر وتقوى قال تعالى: “وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى” [المائدة:2].
* هي باب الهــدى قال تعالى:”هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ”[البقرة:2].
* وهي سبب لمعية الله قال تعالى :”إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ ” [النحل:128].ومن كان الله معه فقد ربح كل شيء ومن طرده الله من معيته فقد خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين .
* وهي رفيق الولاية قال تعالى:”وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ”[الجاثية:19].
* وهي أساس الود والمحبة قال تعالى:”يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ”[الأنفال:29].
* وهي سبب المغفرة قال تعالى:” يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ”[الأنفال:29].
*و هي المخرج من الغم والهم قال تعالى:” وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ” [الطلاق:2- ].
* وهي فتح أبواب الرزق من حيث لا يحتسب العبد قال تعالي:” وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ”(الطلاق / 3).
*وهي سبب في تيسير الأمور قال تعالى:” وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً” [الطلاق:4].
* هي عظم الأجور قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً” [الطلاق:5].
*وهي تقبل الأعمال قال تعالى: “إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ” [المائدة:27].
* وهي سبب الفلاح قال تعالى: “وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” [آل عمران:200].
*وهي البشرى قال تعالى:” الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى”[يونس:63-64]
* و هي سبب دخول الجنة قال تعالى : إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ” [القلم:34]
* وهي وسيلة نيل العلم قال تعالى:” وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” [البقرة:282]. فمن أراد أن يكون عالماً عاملاً فعليه بالتقوى :”
قال الشافعي :”
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ** فأرشدني إلى ترك المعاصي.
وأرشدني بأن علم الله نـــورٌ ** ونـــور الله لا يعطى لعاصي.
* والتقوي هي الاتصاف بالكرم قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”[الحجرات:13].
* وهي وسيلة البركة يقول تعالى:” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ” [الأعراف:96].
* وهي خير زاد يتزود به الإنسان لأخرته :” وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ “( البقرة/ 197).
* وهي سبب صلاح الأحوال :” :”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا “(الأحزاب/70/71).
* وهي خير ميراث يتركه الإنسان لولده بعد موته :” وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفهمْ ذُرِّيَّة ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ , فَلْيَتَّقُوا اللَّه وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا” (النساء/9 ).
لذلك يوم الاحتفال بتولية أبو جعفر المنصور الخلافة وجاء مقاتل العالم الجريء الذي كان يعظ الحكام فلما رآه أبو جعفر قال لرئيس وزرائه لقد جاء مقاتل وسوف أطلب منه الموعظة قبل أن يعظني هو فقال له يا مقاتل عظني فقال له:” يا أمير المؤمنين أعظك بما رأيت أم بما سمعت” فقال له :” بل بما رأيت فإن الموعظة بالرؤيا أبلغ من العظة بالسماع ” فقال له:” والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت الوليد بن عبد الملك بن مروان يوم وفاته وقد ترك أموالاً كثرة وعقارات طائلة قدر ميراث احدي زوجاته الأربع بثمانين ألف دينار غير الضيعات والعقارات “فقال له:” وما العظة في ذلك فقال :” والله يا أمير المؤمنين ولقد رأيت عمر بن عبد العزيز يوم وفاته وقد ترك خمسة عشر ديناراً أُشتري له قبر بست وكفن بأربع ووزع الباقي علي أولاده الخمسة عشر وسئل يومها و هو ينام علي فراش الموت ماذا تركت لأولادك؟ فقال:” لم اترك لهم إلا تقوي الله فإن كانوا صالحين فلن ينفعهم سوي تقوي الله وإلا فلن أترك لهم مالاً يستعينون به علي معصية الله عز وجل ثم تلي قول المولي عز وجل :” وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفهمْ ذُرِّيَّة ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ , فَلْيَتَّقُوا اللَّه وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا” (النساء/9 ).
*و هي وسيلة النجاة في الدنيا وفي الآخرة يقول الله تعالى :”وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ “ و قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا” [مريم:72].
فمن اتقى الله تعالى وامتثل أمر الله واجتنب نهيه نجاه بمفازته ، إذا وقع في هلكة أنجاه الله منها ويسر له الخلاص من ذلك ، فالمتقون هم أهل النجاة .. وقال صلى الله عليه وسلم : “ثلاث منجيات وثلاث مهلكات ، فأما المنجيات : فتقوى الله في السر والعلانية ، والقول بالحق في الرضا والسخط ، والقصد في الغنى والفقر ، وأما المهلكات:فهوى متبع ، وشح مطاع ،وإعجاب المرء بنفسه ،وهي أشدهن “(الطبري والبزار). .
* وخير شاهد علي ذلك ما وقع وما يقع للمتقين . وعلي رأسهم سيد المتقين حيث خرج صلى الله عليه وسلم من مكة ومعه صاحبه أبو بكر يخشيان على أنفسهما من قريش فنجاهما الله تعالى من ذلك وقريش على رؤوسهم ، يقول أبو بكر : يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا ، فيقول له رسول الله : ” لا تحزن إن الله معنا ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما “فنجى الله تعالى نبيه بمفازته من غير أن يمسه سوء .
* ألم تسمع ما وقع لنبي الله يونس صلى الله عليه وسلم حيث ذهب عن قومه مغاضبا لهم لما عصوه فركب البحر فثقلت بهم السفينة فاقترع أهلها أيهم يلقى في البحر لتخف السفينة وينجو بعض من فيها ولا يهلكوا كلهم ، فوقعت على قوم فيهم نبي الله يونس فألقوا في البحر فالتقم الحوت يونس ” فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ” فاستجاب له رب العالمين فأنجاه من الغم قال الله تعالى : ” فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ” .
* ألم يأتكم نبأ الثلاثة من بني إسرائيل :” باتوا في غار فانحدرت عليهم من الجبل صخرة سدت الغار فلا يستطيعون الخروج فقالوا : إنه لا ينجيكم منها إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ، فقال أحدهم : اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فنأى بي طلب الشجر فتأخرت حتى ناما ، فكرهت أن أوقظهما فانتظرت استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي حتى استيقظ أبواي فشربا غبوقهما ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة قليلا . فقال الثاني : اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها حبا شديدا فأردتها عن نفسها فامتنعت حتى ألجأتها الضرورة سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها مئة وعشرين دينارا على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت ، فلما قعدت بين رجليها قالت : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها ، اللهم إن كنت فعلت ذلك لأجلك فأفرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة قليلا إلا أنهم لا يستطيعون الخروج . فقال الثالث : اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم إلا واحدا ترك أجره وذهب ، فثمرت له أجره حتى نما وكثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال : يا عبد الله أعطني أجري ، فقلت : كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق فهو أجرك ، فقال : يا عبد الله لا تستهزئ بي ، فقلت له : لا أستهزئ بك ، فأخذه كله ولم يترك منه شيئا ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون ” ( صحيح ).
*وهي تقي من عذاب الله لأن كلمة التقوى اسم مأخوذ من الوقاية، وهو أن يتخذ الإنسان ما يقيه من عذاب الله، والذي يقيك من عذاب الله فعل أوامر الله واجتناب نواهيه، فإن هذا الذي يقي من عذاب الله عز وجل.
بكى عبد الله بن رواحة – رضي الله عنه – وكان مريضا فقيل : ما يبكيك ؟ فقال : ذكرت قول الله تعالى : “وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً”(مريم/71-72). فلا أدري أنجو منها أم لا ؟. وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه بكى ويقول : أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها ، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تنجينا من النار وأن تلحقنا بالمتقين الأبرار وأن تنجينا من مفاوز الدنيا والآخرة يا كريم يا جواد اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين .
** مقامات التقوى
أخوة الإيمان والإسلام :
وللتقوى مقامات كثيرة تبين معدن الإنسان وتظهر لبه منها:
1- أن يتقي الكفر وهو مقام الإسلام ويكون بتحقيق الإسلام.
2- أن يتقي المعاصي وهو مقام التوبة ويكون بتحقيق التوبة الصادقة.
3- أن يتقي الشبهات وهو مقام الزهد والورع.
4- أن يتقي المباحثات لأن من مراتب دعوة الشيطان الاشتغال بفضول المباحثات.
5- أن يتقي انشغال القلب بغير الله وهو مقام المراقبة أو المشاهدة.
**التقوى واليوم الآخر
أخوة الإيمان والإسلام : وقد ارتبطت التقوي باليوم الأخر في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل حيث يأتي الأمر من الله تعالي :”وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ “(البقرة: 281].
وارتباط التقوى بهذا اليوم لأنه يوم ليس ككل الأيام , إنه يوم الرجوع إلي رب العالمين , تجتمع فيه الخلائق أجمعون , يخرجون من قبورهم …. الكل في انتظار الحساب .
إننا نلتمس فيه الرحمة من الله الرحمن , والعفو من الله العفو , و المغفرة من الله الغفار سبحانه وتعالى لذا علينا أن نكون دائماً علي استعداد لذلك الموعد , فلا نغفل عن محاسبة أنفسنا لحظة بلحظة وساعة بساعة , و يوما بيوم , نكون دوماً مستغفرين شاكرين ذاكرين له سبحانه .
” وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ”
إنه اليوم الذي تُرجع فيه النفوس إلى بارئها وخالقها، وتحاسب فيه على أعمالها وأفعالها:”فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ “(الزلزلة: 7، 8).
إنه اليوم الذي كتب الله فيه على كل ضعيف وقوي، كل غني وفقير أن يُقاد إليه عزيزا أو ذليلا، كريما أو مهانا:﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [النمل: 87]، صاغرين مطيعين لا يتخلف أحد عن أمره…
إنه اليومُ الذي تنتهي عنده الأيام، وتتبدد عنده الأوهام والأحلام، ويجتمع فيه الخصوم، ويُنصف فيه المظلوم وتُنْشَر فيه الدواوين: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ [الكهف: 49].
إنه اليوم الذي تُنْصَب فيه الموازين لمحكمة إله الأولين والآخرين: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
إنه اليوم الذي تُجمع فيه الأمم في موقف واحد، فتُنسى الشهوات وتزول المغريات، ويعاين العبد فيه الحقائقَ أمام عينيه: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ [الأنعام: 94]. فأين الحرير واللباس وأين الشدة والبأس، وأين المال والجاه؟ لقد انكسر العباد لرب العباد، لكي يفصل بينهم في يوم التناد، في يوم تتغيّر فيه ألوان الناس: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، وينادي مناد الله، لكل عبد ما جنت يداه، ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ [آل عمران: 30]، فيُدعى عبد من العباد على رءوس الأشهاد، فلان ابن فلان، فيقف هذا العبد بين يدي الله، والشهود حاضرة، والأبصار شاخصة، يقف العبد حسيراً كسيرا ًأسيراً ذليلاً حافياً عاريا ًبين يدي جبار السماوات والأرض، لكي يسأله ويحاسبَه ويجازيه… ففي الصحيح أن رجلا سأل ابنَ عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟قال: سمعته يقول:”يدنو أحدُكم من ربه حتى يضعَ كَنَفَه عليه، فيقولُ:عمِلت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول:عمِلتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقررُه ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا،فأنا أغفرها لك اليوم”.
وفي الحديث الموقوف، عن أبي هريرة، يُدني الله تعالى العبد منه يوم القيامة، فيضع عليه كنفه ويسترُه من الخلائق كلها، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر، فيقول له: اقرأ يا ابن آدم كتابك، فيقرأ، فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه، ويُسر بها قلبُه، فيقول الله عز وجل: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول: إني تقبلتها منك، فيسجد ذلك العبد، فيقول: ارفع رأسك، وعد في قراءتك، فيمر بالسيئة فيَسوَد لها وجهه، ويَوْجَلُ منها قلبه، وترتعد منها فرائصه ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره، فيقول الله: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول: إني أعْرَفُ بها منك، قد غفرتها لك، فلا يزال حسنة تُقبل فيسجد، وسيئة تُغفر فيسجد، فلا يرى الخلائق منه إلا السجود، حتى ينادي الخلائق بعضها بعضا: طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين الله”. فيقول أرحم الراحمين: خذوا عبدي إلى جنات النعيم، خذوه إلى الرضوان العظيم، فيُعطى كتابه بيمينه، فينطلق بين الصفوف ضاحكا مسرورا، ويصيح أمام العالمين: ﴿ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾[الحاقة: 19، 20]، جزاؤه: ﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 21 – 24]، فيقول الناس: فاز فلان وأفلح. ثم ينادي المنادي فلان ابن فلان، أنْ قُمْ إلى العرض بين يدي الله. وجاء في الأثر، أن الله يسأل هذا العبد أسئلة ثلاث، فيسأله السؤال الأول: عبدي، هل ظلمك حفظتي؟ فيقول العبد: لا يارب، ثم يسأله السؤال الثاني: ألك حسنة مخفية؟ فيقول العبد: لا يا رب، ثم يسأله السؤال الأخير: ألك عذر تعتذر به؟
* ما عذرك أيها العبد عن نهارٍ أضعته بعيداً عن الله، وعن ليلٍ طالما قضيته في معصية الله، فقد لقيت الله محارباً، وعلى المعاصي مصراً.. فكم من نهار اقترفت فيه من السيئات؟ وكم من ليلة بتها على فواحش المنكرات والمحرمات؟ فأي منفعة قدمتها، وأي حسنة ترجوها؟….
فيؤتى هذا العبد كتابه بشماله، وتُنشر فضائحه، وتشهد عليه جوارحه، فيقرره رب العزة والجبروت بذنوبه، فلا يجد حجة ولا وسيلة تنفعه وتنجيه، حتى إذا اشتد غضب الجبار عليه قال: “يا ملائكتي خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فقد اشتد غضبي على من قل حيائه مني”… يشتد غضب الجبار جل جلاله على من خلقه فعبد غيره، وعلى من رزقه فشكر غيره، يشتد غضب الله على من أسبغ عليه النعم ثم عصاه….فيخرج تقوده الزبانية، مقيدا بالسلاسل والحديد يسوقونه على وجهه وهو يقول: ” يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ” [الحاقة: 25 – 29]..
جزاؤه :”خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ “[الحاقة: 30 – 32] .
ما جريمته؟ :” إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ “[الحاقة: 33، 37].
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد فيا معاشر الصالحين والصالحات:” وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ”
إنه يوم عظيم، يوم ليس ككل الأيام، يوم تجتمع فيه الخلائق من أولها إلى آخرها بين يدي رب العالمين، يومٌ يتخلى فيه القريب عن قريبه، ويفر المرء من أخيه، وأمه وأبيهِ، وصاحبته وبنيهِ، لكل امرِئ منهم يومئذ شأن يغنيه. في هذا اليوم تدنوا الشمس من رؤؤس الخلائق ويلجم الناس بعرقهم وينادي الولد علي أبيه يا أبتي ألست أنا ولدك فلذة كبدك ألم أكن بك باراً وعليك مشفقاً وإليك محسناً ألم أجد معك حسنة اليوم يعود علي نفعها وخيرها فيقول الوالد لولده يا بني ليتني استطيع ذلك إنني أشكو ممن منه تشكو .. وتلقي الأم ولدها في عرصات القيامة وتقول يا بني ألست أنا أمك قد كان ثدي لك سقاء وبطني لك وعاء وعيني لك غطاء أما أجد معك حسنة اليوم يعود علي خيرها ونفعها .. فيقول الابن لأمه ليتني استطيع ذلك إنني أشكو ممن منه تشكين وذلك قول المولي عز وجل :” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ”(لقمان /33).
أخوة الإيمان والإسلام :
” وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ “
إِنَّهُ يَومٌ يَجمَعُ اللهُ فِيهِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَتُنشَرُ الصُّحُفُ وَالدَّوَاوِينُ، وَتُنصَبُ المَوَازِينُ، لَقَدِ انَتَهَتِ الأَيَّامُ، وَتَبَدَّدَتِ الأَوهَامُ، وَضَاعَتِ الأَحلامُ، وَاجتَمَعَ الأَحبَابُ وَالخُصُومُ، وَسِيقَ الظَّالِمُ وَالمَظلُومُ “يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ “(عبس)” يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ “(الدخان: 41، 42)” يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ “[الانفطار: 19]
إِنَّهُ يَومٌ مَشهُودٌ وَلِقَاءٌ مَوعُودٌ، بَعدَ لَحظَةٍ حَاسِمَةٍ قَاصِمَةٍ، تَنقُلُ أَحَدَنَا مِن دَارِ العُبُورِ وَالغُرُورِ، إِلى دَارِ السُّرُورِ أَوِ الشُّرُورِ، لَحظَةٌ تُلقَى فِيهَا آخِرُ النَّظَرَاتِ عَلَى الأَبنَاءِ وَالبَنَاتِ، وَيُوَدَّعُ فِيهَا الإِخوَانُ وَالأَخوَاتُ، وَتَبدُو عَلَى الوَجهِ فِيهَا مَعَالِمُ السَّكَرَاتِ، وَتَخرُجُ مِن صَمِيمِ القَلبِ الزَّفَرَاتُ وَتَغرَقُ العَينُ بِالعَبَرَاتِ، لَحظَةٌ يُؤمِنُ فِيهَا المُلحِدُ وَالكَافِرُ، وَيُوقِنُ عِندَهَا الفَاسِقُ وَالفَاجِرُ، وَتَظهَرُ حَقَارَةُ الدُّنيَا وَقِصَرُهَا وَهَوَانُ أَمرِهَا، وَيُحِسُّ مُلاقِيهَا أَنَّهُ فَرَّطَ في جَنبِ اللهِ كَثِيرًا، فَيُنَادِي بِلِسَانِ النَّادِمِ المُتَحَسِّرِ: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100] رَبِّ لَولا أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالحِينَ ” هُنَالِكَ يَدنُو مَلَكُ المَوتِ فَيُنَادِي: ” يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ [الفجر: 27 – 28] أَو يَقُولُ وَهُوَ يَنزِعُ الرُّوحَ نَزعًا: “يَا أَيَّتُهَا النَّفسُ الخَبِيثَةُ، اُخرُجِي إِلى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ. وَحِينَئِذٍ تَبرُدُ الأَعضَاءُ، وَيَسكُنُ القَلبُ وَالأَحشَاءُ:” وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ” [القيامة: 29، 30].
” يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ” ( إبراهيم: 48 ).
يوم يَخرُجُ العَبدُ مِن قَبرِهِ حَسِيرًا كَسِيرًا، لا ثَوبَ يُغَطِّيهِ، وَلا مَسكَنَ يُوَارِيهِ، حَافِيًا عَارِيًا، لا يَملِكُ قَلِيلاً وَلا كَثِيرًا، وَلا يَحمِلُ فَتِيلاً وَلا نَقِيرًا ” وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ “[الأنعام: 94] .
إِنَّهُ يَومٌ يَجمَعُ اللهُ فِيهِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَتُنشَرُ الصُّحُفُ وَالدَّوَاوِينُ، وَتُنصَبُ المَوَازِينُ، لَقَدِ انَتَهَتِ الأَيَّامُ، وَتَبَدَّدَتِ الأَوهَامُ، وَضَاعَتِ الأَحلامُ، وَاجتَمَعَ الأَحبَابُ وَالخُصُومُ، وَسِيقَ الظَّالِمُ وَالمَظلُومُ ” يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ” [المعارج: 11 – 14] .
“يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ “[الدخان: 41، 42]
” يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ “[الانفطار: 19]
” وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا “[الفرقان: 25 – 26).
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ” ( الحج /1-2) .
أخوة الإيمان والإسلام:” كان هذا موجز لحديث القرآن عن هذا اليوم وليس علينا إلا الاستعداد ليوم الرحيل وهذا الاستعداد لابد من ترجمته ترجمه عمليه بأن نجعل بيننا وبين عذاب الله تعالي وقاية , فنقوي هممنا بكثرة الإنابة , والخطوات إلي المساجد , وبر الوالدين , وصله الأرحام , والصدقة , والإحسان إلي الفقراء والأرملة واليتيم , وغض البصر وحفظ الفرج,وكف الأذى وحفظ اللسان ,والوفاء بالعهد وقيام الليل , وقراءة القرآن , وصيام النهار ..
بل علينا أن نسارع إلي كل أبواب الخير لنغنم محبة الله سبحانه ورضاه , ولنكون يوم القيامة مع الفائزين ويوم الحشر مع الآمنين , ونكون ممن ينادي عليهم : ” يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ” (الزخرف/ 68).
حيث تتلقانا الملائكة وتطمئننا حتى لا نفزع مما نراه في ذلك اليوم , بل وتبشرنا بجنة الخلد : ” إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ” ( فصلت /30). فمن أراد الفوز والنعيم المقيم و السعادة والنجاة فعليه ألا يُبرح هذه الآية خياله و لا تغيب عن باله ..”
أذكركم جميعا وأذكر نفسي قبلكم، بهذه التذكرة، بهذه الحقيقة التي غفلنا عنها وغفل عنها كثير من الناس. فليتذكر كل عبد وكل أمة، ليتذكر الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ليتذكر الذين يعتدون ويخبطون ويخوضون في أعراض ومصالح المسلمين وأموالهم بغير حق، وليتذكر كل من غره المال الأعوان والأولاد، وغرهم الجاه والمنصب والسلطان، ليتذكر من دعته قوته وقدرته على ظلم الضعفاء من العباد، ليتذكروا قدرة اللـه جل وعلا يوم يخرجون من هذه الدنيا وقد انفض عنهم الجميع، وسقطت الأقنعة، وانفض الأهل والأعوان، وزال المال والجاه والسلطان:” وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ” [الأنعام: 94]، ليتذكر الجميع يوم المساءلة والمحاسبة، يوم يُختم على الأفواه وتتكلم الأيدي وتشهد الأرجل، فينهال المظلومون على الظالمين من كل مكان، ويتعلقون بهم، كل يريد حقه ونصيبه في موقف تُنصب فيه محكمة العدل الإلهية، حاكمها الله جل وعلا، ومكتوب عليها:” الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ” [غافر: 17]،” إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ” [غافر: 18]. فاليوم يوم القصاص، اليومَ يُقتص فيه للمظلومين من الظالمين، وللمخدوعين من الخادعين، وللمكذوب عليهم من الكاذبين:” يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ”[غافر: 52].
يوم يقتص من القاتل للمقتول فعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ، ثُمَّ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ، ثُمَّ اهْتَدَى ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَيْحَكَ ، وَأَنِّي لَهُ تَوْبَةٌ ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : ” يَأْتِي الْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ ، تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا ، حَتَّى يَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْعَرْشِ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، سَلْ هَذَا فِيمَا قَتَلَنِي ” , ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَعْنِي آيَةَ الْقَتْلِ ، فَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ ” (الترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم )..
أخوة الإيمان والإسلام :” إذا أردنا النجاة والفوز، فلنكن من أصحاب العقول الراجحة والقلوب الواعية، ولنعمل ولنستعد ولنتزود لهذا اليوم، ولا يغرَّنا طول الأمل، فالموت يأتي بغتة، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني… فعَن سَهلِ بنِ سَعدٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا – قَالَ: جَاءَ جِبرِيلُ إِلى النَّبيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعمَلْ مَا شِئتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ، وَأَحبِبْ مَن شِئتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤمِنِ قِيَامُ اللَّيلِ، وَعِزُّهُ استِغنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ”(الطَّبَرَانيُّ ).
فمن أراد النجاة والفوز، من أراد السعادة الكبرى والنعيم المقيم، فليجعل هذه الآية، نصب عينيه فلا تبرحُ خياله ولا تغيب عن باله: ” وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ “.
ولست أقصد بعرض هذه التذكرة أن نجلس صامتين تملأ الدموع أعينَنا، بل علينا أن نُحفز أنفسنا باستغلال طاقة الحزن على تقصيرنا لصنع التغيير الداخلي في أنفسنا والتخلص من شوائبها وأمراضها فإن الله تعالى يقول:”إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ “[الرعد: 11].
*الدعاء.
عباد الله :” أقولي قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ..وقوموا إلي صلاتكم يرحمكم الله وأقم الصلاة.